المد الكاسح
أما بالنسبة للسلاح الجوي الإسرائيلي الذي علق عليه اليعازر كل آماله، فلم يتمكن من وقف المد المصري الكاسح وبسبب صواريخ سام، لم تتمكن الطائرات من التحليق فوق ساحة المعارك، وقد نفذت الطائرات الإسرائيلية 120 طلعة فوق الجبهة المصرية هذا اليوم، وسقطت منها اربع طائرات لكن بقية الطائرات لم تحقق اي نجاح في مهماتها كان المشاه المصريون عرضة لنيران المدفعية، لكن الإسرائيليين لم يكن لديهم سوى 50 قطعة مدفعية على طول خط الجبهة البالغ مئة ميل.
وكانت هذه القطع تحت نيران مضادة كثيفة، كما لم تكن التحصينات تمثل اي حاجز لاحباط اي هجوم، وكان من السهل على المصريين استغلال المساحات الخالية بينها وتنفيذ العبور ببراعة. يقول المؤلف ان مهمة الدفاع عن جبهة القناة اوكلت بعد ظهر عيد الغفران إلى الكولونيل ريشيف الذي كانت تحت قيادته 91 دبابة تشكل اللواء المتقدم لفرقة سيناء التي يتولى قيادتها الجنرال ميندلر وذلك بالاضافة إلى 450 جنديا في التحصينات الستة عشر على طول خط بارليف.
كانت التحصينات الشمالية الاربعة على القناة مبنية على طول طريق بين القناة نفسها وبحيرة تغطي معظم القطاع وكان هناك تحصين في اقصى الشمال يطلق عليه اسم «اوركال» ونظرا لبعده عن الجبهة فقد تمركز فيه عدد من الدبابات طوال الوقت وعندما نشبت الحرب كانت لدى «أوركال» ثلاث دبابات تم ارسال اثنتين منها إلى التحصينات الأخرى عبر طريق يمر من خلال البحيرة. إلا ان الدبابتين تعرضتا لكمين وتم تدميرهما.
كما تعرضت دبابات إسرائيلية أخرى لنيران الـ «آر.بي.جي» أو لصواريخ «ساجر«، كما تعطلت دبابات أخرى نتيجة لمرورها فوق ألغام مضادة للدبابات زرعها المصريون، بينما تعطلت دبابات عديدة بعد ان دخلت منطقة مستنقعات عميقة.وعند اقتراب غروب الشمس صدرت الأوامر إلى قائد كتيبة الدبابات اللفتنانت كولونيل توف تامير بارسال دبابات إلى حصن يطلق عليه اسم «لاتزانت» الذي انقطعت الاتصالات به.
كان قائد الحصن، ويدعى مولى مالهو قد قتل. وأرسل تامير كل ما تبقى لديه من دبابات مع جنود مشاه، إلا ان هذه القوة تعرضت هي الأخرى لكمين. لم يكن قد مضى على الحرب سوى أربع ساعات ليجد تامير ان كتيبته قد أبيدت بالكامل تقريبا.يقول المؤلف إن حظ الكتيبتين الأخريين على خط المواجهة كان أفضل، ولكن ليس أفضل كثيرا. ففي القطاع الأوسط، حيث كانت تعبر معظم قوات الجيش المصري الثاني، أفادت التقارير ان مجموعة من المشاه المصريين تم رصدهم على بعد ثلاثة أميال شرقي القناة متجهين نحو طريق المدفعية، وتمكنت مجموعة إسرائيلية من وقف تقدمهم.
وفي القطاع الجنوبي حيث تعبر وحدات الجيش الثالث أوقف اللفتنانت ساندروف سرية دباباته على بعد 600 ياردة من حصن «مافزيه»، وراح يمسح بعينيه المنطقة، لم تكن هناك أية قوات مصرية في المكان، ولم تلح أية اشارة لوجود نشاط على التل المصري المواجه. وعندما بدأت السرية تقدمها مرة أخرى، ظهر المصريون حاملين قذائف الـ «آر.بي.جي» من وراء التل الرملي ليشعلوا النار في الدبابة بالمقدمة.
وفي الوقت نفسه أطلقت صواريخ «ساجر» من فوق التل المصري وانطلقت قذائف المدفعية. حاولت دبابة الاقتراب لانقاذ الدبابة المحترقة، لكنها أصيبت بصاروخ «ساجر». عاد السائق بدبابته وقد قتل ثلاثة من أفراد دبابته. وأصيب ساندروف بشظية في عينه، وتراجع وهو يطالب نائبه غور بأن يقوم بمسح المنطقة الواقعة جنوب الحصن بنصف الدبابات، بينما اتجه ساندروف نفسه نحو الشمال بالنصف الآخر.
عندما مر غور بالقرب من حاجز إسرائيل ظهر جندي مصري وأطلق قذيفة «آر.بي.جي» لكنها لم تصب الدبابة التي تقهقرت مسرعة، وعندما لحق بقوة ساندروف سبقه صاروخ منطلق من فوق تل مصري ليصيب دبابة قائد السرية. اندفع غور نحو الدبابة ليجد ساندروف ومساعده وقد لقيا مصرعيهما. كما وجد غور دبابة اخرى على بعد 50 ياردة مصابة وعندما اقترب من قائدها وجده قد قتل.
ويقول المؤلف ان العديد من الدبابات الإسرائيلية دمرها المصريون اما بصواريخ «اجر» أو بقذائف الـ «آر.بي.جي» أو بمرورها فوق ألغام مضادة للدبابات. وقبل غروب الشمس بنحو نصف ساعة تأكد الإسرائيليون على طول خط المواجهة من ان المصريين لا يهاجمون بقوة وشراسة فقط، بل انهم يعتزمون نشر قوات داخل سيناء.
وقد تأكدوا من ذلك عندما رأوا أجزاء من جسر يتم تجميعها في مياه القناة بالقرب من حصن «بركان». حاولت مجموعة دبابات مهاجمة الجسر، إلا انها تعرضت لنيران الـ «آر.بي.جي» و«ساجر» وأصيب العديد منها، وصدرت الأوامر بانسحاب ما تبقى منها. بعد تعرض أعداد كبيرة من الدبابات للتدمير، أدرك قادة سلاح المدرعات الإسرائيلي وجنوده انهم يواجهون نقلة نوعية في طبيعة المعارك، وان هناك شيئا ثوريا يحدث لا يستطيعون التصدي له، شيئا يماثل ظهور المدفع الرشاش واختفاء سلاح الفرسان. فالدبابات التي ظلت لأكثر من نصف قرن السلاح الذي يحسم نتيجة أي معركة، أصبحت الآن صيداً سهلاً، بل اصبح بإمكان جن��ي مشاة عادي ان يدمرها بسهولة.
تحييد الطيران الإسرائيلي
يقول مؤلف الكتاب انه مع الغاء الضربة الوقائية، لم يقم سلاح الطيران الإسرائيلي بأي نشاط يذكر خلال اليوم الاول من القتال.وتركز دوره في حماية الاجواء الإسرائيلية. وبعد ان امضى الميكانيكيون ساعات منذ الصباح في تجهيز الطائرات بالقنابل لشن هجوم على منصات الصواريخ السورية ثم على القواعد الجوية السورية، فقد اصبح يتعين عليهم الآن تفريغ الطائرات من حمولاتها واعدادها مرة اخرى للمعارك الجوية.
وقد صدرت الأوامر لبعض الطيارين بالاقلاع وتفريغ حمولاتهم في البحر حتى يتمكنوا من القيام بسرعة بطلعات جوية. وقد قال بيليد، قائد السلاح الجوي الإسرائيلي، أمام لجنة تحقيق بعد انتهاء الحرب، إن اجراءات روتينية افقدتنا فرصة لتوجيه ضربة كبيرة، فقد حصل جهاز المخابرات العسكرية «أمان» على صور جوية حيوية التقطتها طائرات استطلاع لتحركات القوات المصرية قبل الحرب.
إلا انه لم يحصل على تكبير لهذه الصور إلا بعد اسبوعين. وتظهر الصور لواءات مصرية مدرعة مصطفة بأعداد هائلة بانتظار التحرك نحو الجسور على القناة. وقال لو علم سلاح الطيران الإسرائيلي بهذه الاهداف الثابتة لكان قد الحق ضربة مدمرة بالقوات المصرية.
لم تتمكن القيادة الإسرائيلية من استيعاب الطابع الهائل للهجوم المصري، ولم تتمكن من استيعاب ما يحدث من تدمير شامل لقواتها على امتداد خط القناة. وقد نجح المصريون ببراعة في تحويل خطتهم الهجومية ـ التي تتلخص في عبور القناة ـ إلى معركة دفاعية. وكانت الدبابات الإسرائيلية فريسة سهلة لجنود المشاة المصريين. فقد حاولت الدبابات اقتحام الوحدات المصرية، إلا انها كانت دائماً تتعرض لكمائن من المصريين الذين كانوا يتوقعون منها القيام بهذه المحاولات.
لقد انقلب السحر على الساحر. وادت الأسلحة والتكتيكات المصرية الجديدة إلى تحطيم مفهوم صدمة المدرعات الذي تبنته القيادة الإسرائيلية.وأصبح الموقف خلال الساعات الأولى من الحرب هو صدمة المدرعات الإسرائيلية على ايدي المشاة المصريين. لقد ادى الهجوم المصري المفاجئ إلى إصابة القيادات الإسرائيلية بالشلل، والى إصابة العديد من ضباط جبهة سيناء بصدمة نفسية، لم يتمكنوا من الخروج منها إلا بعد مرور عدة أيام على الحرب، وذلك على حد قول احد كبار الضباط امام لجنة التحقيق الإسرائيلية في هزيمة حرب أكتوبر.
وفي ظل الخسائر الهائلة لسلاح المدرعات الإسرائيلي، أصدر اليعازر في الساعة 30,6 مساء يوم السبت أوامره إلى جونين بإخلاء كل التحصينات على ضفة القناة باستثناء تلك التي تقف في طريق التقدم المصري، أو التي يمكن استخدامها كمراكز مراقبة. كان جونين يتولى قيادة العمليات من مقر المؤخرة على بعد 150 ميلاً من الجبهة، لم يكن يدرك ان العبور المصري يجري على طول خط القناة. وعند منتصف الليل، طلب جونين من اليعازر السماح له بشن هجوم على موقع مصري يقع على بعد نصف ميل شمال حصن «أوركال».
لم يكن جونين يدرك حقيقة ان الطريق المؤدي إلى «أوركال» قد تحول إلى مصيدة موت وقد تم تدمير كل دبابة ذهبت إلى هناك. ولذلك لم يمنح اليعازر تصريحاً لجونين لتنفيذ خطته.وفي الساعة 30,1 من صباح يوم الاحد، وبعد تدمير معظم دبابات فرقة سيناء، التي يقودها الجنرال البرت ميندلر، في الوقت الذي لم تتعرض فيه القوات المصرية لأية اصابات، اعلن جونين ان العبور المصري قد فشل نظرا لانهم لم ينقلوا المدرعات إلى الضفة الشرقية من القناة. ولكن في الواقع فإن عدة مئات من الدبابات المصرية كانت قد عبرت بالفعل القناة، على الرغم من انها لن تدخل ساحة العمليات حتى الصباح.
أوهام القيادة الإسرائيلية
في هذا الصدد كتب الجنرال أفرام أدان قائد سلاح المدرعات فيما بعد يقول: «ان جونين كان يتوصل إلى استنتاجات من دون ان يتشاور مع ضباطه في عملية تقويم الموقف. لقد كان يعتمد على حدسه وعلى تجاربه السابقة مع المصريين، الذين كان يكن لهم العداء والكراهية الشخصية. كما كان مساعدوه يخشون تقديم أية تقارير له خوفاً من ردود أفعاله. ولم يتوجه جونين إلى مقر المقدمة عند أم حصيبة على بعد 30 ميلاً من القناة إلا بحلول الساعة الثانية من صباح يوم الأحد، أي بعد مرور 12 ساعة من بدء الحرب».
لم يشارك ميندلر قائد فرقة سيناء الجنرال جونين في أوهامه لكنه لم يتمكن من التوصل إلى الاستنتاجات الضرورية انطلاقاً من الصورة المرسومة أمامه. فقد جلس في مقره هادئاً، وقد تركزت عيناه على خريطة كبيرة معلقة على الجدار يقوم ضباطه بتطوير التغيرات التي تطرأ عليها بين لحظة وأخرى. وبعد أن اصدر اوامره لقادة لواءات الفرقة، وهي أوامر للدفاع أساساً عن خط القناة، لم يصدر بعد ذلك اية تعليمات اخرى، ونادراً ما كان يتحدث عبر شبكة اللاسلكي. وكان ما قاله للجنرال شومرون: «افعل ما في وسعك أن تفعله» هو آخر التعليمات التي تلقاها قائد اللواء في هذا اليوم.
كانت ترتسم على وجه ميندلر ابتسامة مريرة وهو يتطلع إلى الدوائر والأسهم الحمراء التي رسمها مساعدوه على الخريطة والتي تشير إلى توسيع نطاق رؤوس الجسور المصرية وذوبان الوحدات الإسرائيلية. كان ميندلر يختفي لفترات داخل مكتبه، حتى موعد اجتماع كبار ضباط الفرقة. لم تكن لديه صلاحية اصدار أوامر اخلاء التحصينات، لكنه لم يطلب هذه الصلاحية عن القيادة العليا.
ولم تفهم الوحدات الموجودة في التحصينات على طول خط بارليف سبب مطالبتها بالبقاء في هذه التحصينات في الوقت الذي اصبح الموقف ميئوساً منه. وبدا واضحاً لهم ان التحصينات اصبحت بمثابة شراك يتعين الهروب منها، وليست نقاطاً مهمة يتعين الدفاع عنها. لكن جونين كان يعتزم استعادة شريط المياه وعبور القناة ولم يكن راغباً في التخلي عن النقاط الواقعة تحت سيطرته.
وقد اثبت قرار عدم اجلاء التحصينات انه تحول إلى كارثة على التحصينات وعلى الدبابات التي حاولت حمايتها. وفي بعض التحصينات تم القضاء على معظم الجنود، ولم يتبق سوى افراد الخدمة، وليس أفراداً مقاتلين. وقد ناشدوا افراد الدبابات الذين وصلوا إليهم ان يخرجوهم من هذه المقابر، وتم نقل طلبهم إلى القيادة، لكن الرد كان سلبياً.
وأعطى الظلام غطاء لصائدي الدبابات المصريين الذين كانوا يغطون كل الطرق المؤدية إلى التحصينات وتمكن هؤلاء من تدمير عشرات الدبابات أو تعطيلها وإصابة كل أفرادها.